بين التاريخ والشعر، لمحمود رفعت

كان الخلود هو هاجس الإنسان الأول منذ خُلق، وكان التأريخ لنفسه وقومه وسيلتَه للخلود، ولهذا يمكنك أن تقول إن التأريخ حاجة من حاجات الإنسان الأساسية التي لا يمكنه أن يستغني عنها، ولا يمكنه أن يتنازل عن حقِّه فيها.

والفن والتاريخ وجهان لعملة واحدة، كلاهما يسجل بهما الإنسان أحداثه المهمة، لكنّ التاريخ عام، والفن خاص، لهذا يتمتع الفن بحرية أكبر في رصد الأحداث وغاياتها، بخلاف التاريخ الذي يمارس عليه المجتمع نوعًا من الرقابة التي تهذبه وتطهره من كل ما يشينه.

والفن أنواع كثيرة، أهمها على الإطلاق وأفضلها الشعر؛ الشعر هو الوسيلة الأقرب دائما والأسهل، وهو الوسيلة المتاحة في كل وقت وفي كل زمان، يحتاج الرسّام والنحات والمغني والسينمائي إلى أدوات، وتحتاج بعض هذه الفنون إلى تعاون ومشاركة، لكن الشعر لا يحتاج إلى أي شيء من هذا، ولهذا برع فيه أجدادنا القدماء، فإن العرب كانت أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، لكنها كانت أمة شاعرة، وكان الشعر سجلها الخالد، وتاريخها الذي لا يضيع.

وقد كان للعرب باع في الفنّ القصصي، غير أن الفن القصصي لا يمكن أن يبلغ درجة الشعر العالية؛ إذ إن الشعر العربي مرتبط بأوزان وقوافٍ تحفظه في صدور الناس، أما القصص فتتداخل أحداثها وتتساقط تفاصيلها وتُنسى دون أن تجد ما يحفظها من أصل بنائها.

كانت العرب أمة أمية، فكيف كتبت تاريخها؟ الحقيقة أنها لم تكتب تاريخها، ولكننا عرفناه من شعرها، ولهذا قيل إن الشعر هو (ديوان العرب).

حفظ الشعر لهذه الأمة المباركة لغتها وجمالها وتاريخها بأدق تفاصيله، وهذه ميزة عجيبة لا تجدها إلا في أمتنا؛ فإن العرب لم يجتمعوا قبل الإسلام في دولة؛ فكانوا أحرارا في كل شيء، ولم يكن لهم تاريخ جامع مهذب منقح، فسجّلوا أحداثهم بأشعارهم التي عبّرت عن نفوسهم الحرة الأبية، وما دار فيها، وكيف رأت الأحداث، وكيف أثّرت فيها.

ومن هنا نكتشف أهمية الشعر في حياة العرب، وميزته، ونكتشف أيضا أنه عبّر عن أهم مميزات العرب، وهي أن هذه الأمة منذ ظهرت على وجه التاريخ كانت أمّة حرّة أبية.

أغارت في الماضي البعيد قبل الإسلام قبيلة على قبيلة، فكاد ينتصر المعتدون لولا أن تماسك المُعتدى عليهم وانتصروا، هذه حرب واحدة من حروب كثيرة مثلها وقعت بين العرب، وهي أحداث مكررة، لماذا قد يهتمّ بها مؤرخ؟ ولو اهتم بها هل تظنّ أنه سيكتب عنها أكثر مما كتبتُ لك الآن؟

بالطبع لن يهتم، ولو اهتم فإن أقصى ما يمكنه أن يكتب عنها مثل ما كتبتُ لك.

لكن هذه الحرب لم تكن بالنسبة لمحبي الشعر حربًا عادية كحروب العرب المكررة، بل كانت حربا بين بني زبيد وأعدائهم، وهذه هي الحرب التي سطع فيها نجم شاعر من كبار شعراء الجاهلية، وبطل من أشجع أبطالها، سيدنا عمرو بن معديكرب رضي الله عنه، ليس هذا فقط، بل سجّل شاعرنا البطل تفاصيل المعركة بدقة كما رآها، وكما كان وقعها في نفسه الأبية بأبيات بديعة لم تستطع السنون أن تمحو جمالها وبهاءها، فكتبَ قصيدته الخالدة التي مطلعها: ليس الجمال بمئزر

واهتم العرب بهذه القصيدة فحفظوها، وتناقلوا قصتها، وهي قصة طريفة عجيبة، فقد قالوا: إن الشاعر كان مدللًا، وكان أبوه سيدًا في قومه، فَكَرِهَ هذا من ابنه، فكان يدعوه بـ (المائق) أي الذي لا فائدة منه، وقالوا إنهم سمعوا بتأهب أعدائهم لمهاجمتهم والاعتداء عليهم، فجمع معديكرب (أبو الشاعر) بني زبيد (قبيلة الشاعر)، وبدأ يستعد وإياهم للدفاع عن قومه، وبينما كان الأب مشغولا باستعداداته جاء ابنه فقال لأخته: أشبعيني؛ إني غدا لكتيبة. أي أنه سيكون وحده كتيبة كاملة في الحرب، فلما جاء أبوها أخبرته، فغضب، لأن سيدا مثله لا ينبغي أن يقول ابنه كلاما يدل على الحرمان، فقال لابنته: هذا المائق يقول ذاك؟ قالت: نعم. قال: فسليه ما يُشبعه. فسألته، فقال: فرق من ذرة وعنز رباعية. والفرق أربعة صيعان، وهذه كمية كبيرة من الطعام، فذبحوا له العنز، وأعدوا الطعام، فأكله كله ونام، ثم جاءهم الأعداء في الصباح، واشتدّ القتال، وتراجعت بني زبيد، وكادت تُهزم، فأسرع عمرو بني معديكرب إلى أبيه ليأخذ فرسه، ويحمل اللواء، لأنه حتى الآن ما اشترك في المعركة، ولا صنع شيئًا بعدُ للدفاع عن قومه، لكن أباه رفض، وقال: إليك عني يا مائق!

فقال له بنو زبيد: خلِّه أيها الرجل وما يريد، فإن قُتِلَ كُفيت مؤونته، وإن ظهر (أي انتصر) فهو لك. أي أن النصر سيكون باسمك، فانصاع لهم الأب، وألقى سلاحه لابنه، فركب الفرس، وهاجم أعداءه حتى خرج من بين أظهرهم، ثم كرّ عليهم، وفعل ذلك مرارا، وانضم إليه فرسان قومه، فانتصروا بعد الهزيمة، وصار لقبه من بعد (فارس زبيد)، وقال يصف هذا اليوم، وما كان فيه:

ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا

إن الجمال معادن ومناقب أورثن مجدا

أي لا يخدعك الظاهر؛ فالجمال الحقيقي هو المعدن الصالح والأخلاق الحميدة التي تورث المجد.

أعددتُ للحدثان سابغة وعداء علندى

نهدًا وذا شطب يقد البيض والأبدان قدا

أي أنه أعد للدهر وحوادثه درعا سابغة، وحصانا قويا سريعا وسيفا حادًّا يقدّ خُوذ الجنود وأبدانهم.

وعلمتُ أني يوم ذاك منازل كعبا ونهدا

قوم إذا لبسوا الحديد تنمروا حلقا وقدا

أي أنه لِبُعْدِ نظره وعلمه بالناس علم أن هاتين القبيلتين (كعب ونهد) سيعتدون على قبيلته، ولذلك استعد، ثم يصفهم في البيت الثاني بالقوة؛ فإنهم إذا لبسوا الدروع كانوا كالنمور في قوتهم وجرأتهم.

كل امرئ يجري إلى يوم الهياج بما استعدا

أي أنه لا يلومهم، بل هذا هو الصواب أن يستعدّ كل إنسان لأعدائه، وقد استعدوا واستعدّ، وجاء اليوم.

لما رأيت نساءنا يفحصن بالمعزاء شدّا

وبدت لميس كأنها بدر السماء إذا تبدى

وبدت محاسنها التي تخفى وكان الأمر جدّا

في ذلك اليوم انهزم قومه، ووصل الأعداء لخدور النساء، وأسروهن، وهن نساء شريفات أبيّات، كنّ يحفرن في الأرض الصلبة بأرجلهن العارية أثناء شد فرسان الأعداء لهنّ، وبدت لميس حبيبة الشاعر الجميلة التي تشبه بدر السماء، لكن جمالها لم يشغله عن حالها في دفاعها عن نفسها ومقاومتها الأسر، فإن الأمر كان جادًّا.

نازلتُ كبشهم ولم أرَ من نزال الكبش بُدا

هم ينذرون دمي وأنذر إن لقيت بأن أشدا

هنا يسرع الشاعر إلى نجدة قومه، وإلى حماية شرفه وعرضه، فلا يتراجع حتى ينازل قائد الأعداء، وقد عرف الأعداء قوته وشجاعته فنذروا أن يقتلوه، ونذر هو ألا يتراجع أو يستسلم.

كم من أخ لي صالح بوأته بيدي لحدا!

ما إن جزعت ولا هلعت ولا يرد بكاي زندا

ألبسته أثوابه وخلقت يوم خلقت جلدا

أغني غناء الذاهبين أعد للأعداء عدا

ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا

انتهى الشاعر من ذكر المعركة، فإنه لم يصل للقائد حتى هزم الجنود، وقد نذر أن يشد، ووفى بنذره، فالآن يعود الشاعر إلى نفسه ويتذكر الفرسان الأبطال من إخوانه وأصدقائه، لقد فقد في المعارك كثيرا من أصدقائه واضطر لدفنهم بيده، وقد كان في كل أحواله هادئا ثابتا لا يهلع ولا يجزع، لأنه يعلم أن الجزع لن يعيد الأموات، بل كان يحسن تكفينهم ودفنهم؛ فإنه صبور جلد مذ خُلق، فلا يمكن أن يقول قائل إن الأبطال ماتوا ووهنت بنو زبيد، بل يغني الشاعر غناءهم، ويُذكر باعتباره كتيبة كاملة تُعد للأعداء عدا، لكنه مع غنائه وقوته يتحسر على فقدانه لأبطال قومه بالبيت الأخير، فقد تُرك وحيدا كالسيف لا صديق له ولا قريب.

سامحني أيها القارئ إذ أطلتُ عليك، ولكنك الآن فقط تفهم أهمية هذا الشعر الذي لم يكن مجرد تأريخ لحدث وقع، ولكنه كان تأريخا للحدث بكل تفاصيله، وحفظا له من الضياع مع مرور القرون الطويلة.

Related posts

Leave a Comment